الأحد، 25 مارس 2012


المقدمة
لكل مجتمع خصوصية تعكسها ثقافته السائدة بين أبنائه، تلك الثقافة التي تطورها مجموعة القيم والمفاهيم والمعارف التي اكتسبها عبر ميراثه التاريخي والحضاري وواقعه الجغرافي والتركيب الاجتماعي وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي، فضلاً عن المؤثرات الخارجية التي شكلت خبراته وانتماءاته المختلفة. والثقافة السياسية هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع.. وهى تختلف من بلد لآخر حتى لو كان شعباه ينتهجان نفس الأساليب الحياتية، وينتميان إلى نفس الحضارة، ويتقاسمان الاهتمامات والولاءات.

تعريف الثقافة السياسية
يقصد بالثقافة السياسية مجموعة المعارف والآراء والاتجاهات السائدة نحو شؤون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة. وتعنى أيضاً منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم. ومعنى ذلك أن الثقافة السياسية تتمحور حول قيم واتجاهات وقناعات طويلة الأمد بخصوص الظواهر السياسية، وينقل كل مجتمع مجموعة رموزه وقيمه وأعرافه الأساسية إلى أفراد شعبه، ويشكل الأفراد مجموعة من القناعات بخصوص أدوار النظام السياسي بشتى مؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وحقوقهم وواجباتهم نحو ذلك النظام السياسي. ولما كانت الثقافة السياسية للمجتمع جزءاً من ثقافته العامة، فهي تتكون بدورها من عدة ثقافات فرعية، وتشمل تلك الثقافات الفرعية: ثقافة الشباب، والنخبة الحاكمة، والعمال، والفلاحين، والمرأة.. الخ. وبذلك تكون الثقافة السياسية هي مجموع الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تعطى نظاماً ومعنى للعملية السياسية، وتقدم القواعد المستقرة التي تحكم تصرفات الأفراد داخل النظام السياسي، وبذلك فهي تنصب على المثل والمعايير السياسية التي يلتزم بها أعضاء المجتمع السياسي، والتي تحدد الإطار الذي يحدث التصرف السياسي في نطاقه. أي أن الثقافة السياسية تدور حول ما يسود المجتمع من قيم ومعتقدات تؤثر في السلوك السياسي لأعضائه حكاماً ومحكومين. وعلى ذلك يمكن تحديد عناصر مفهوم الثقافة السياسية على النحو التالي:
1.   تمثل الثقافة السياسية مجموعة القيم والاتجاهات والسلوكيات والمعارف السياسية لأفراد المجتمع.
2.   الثقافة السياسية ثقافة فرعية. فهي جزء من الثقافة العامة للمجتمع تؤثر فيه وتتأثر به، ولكنها لا تستطيع أن تشذ عن ذلك الإطار العام لثقافة المجتمع.
3.   تتميز الثقافة السياسية بأنها متغيرة. فهي لا تعرف الثبات المطلق، ويتوقف حجم ومدى التغير على عدة عوامل من بينها مدى ومعدل التغير في الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ودرجة اهتمام النخبة الحاكمة بقضية التغير الثقافي، وحجم الاهتمام الذي توليه وتخصصه الدولة لإحداث هذا التغيير في ثقافة المجتمع، ومدى رسوخ هذه القيم في نفوس الأفراد.
4.   تختلف الثقافة السياسية بين مجتمع وآخر كما تختلف من فرد لآخر داخل المجتمع. هذا الاختلاف تفرضه عوامل معينة كالأصل ومحل الإقامة والمهنة والمستوى الاقتصادي والحالة التعليمية

الثقافة السياسية والنظام الحزبي
المقصود بالنظام الحزبي مجموع الأحزاب التي تتفاعل في ما بينها ضمن نظام سياسي في بلد محدد، وقد تكون علاقاتها تنافسية حيناً وتعاونية حيناً آخر هذه العلاقات تتأثر وتؤثر في الوقت ذاته بالنظام السياسي القائم وبهيكله، وبالمنظومة القانونية قيد التطبيق، وتحديداً تلك التي لها وقع مباشر على الأحزاب، كالقوانين الانتخابية وقوانين الأحزاب. على سبيل المثال، أظهرت التجارب أن النظام الانتخابي النسبي يساهم عموماً في بروز نظام ذي تعددية حزبية صلبة، تتمتع فيه الأحزاب باستقلالية وبثبات. والنظام الانتخابي الأكثري على دورتين يعطي نظاماً ذا تعددية حزبية مرنة، تخضع فيه الأحزاب لبعضها بعضاً مع ثبات نسبي. ويساعد النظام الأكثري على دورة واحدة في بروز ثنائية حزبية مع تناوب على السلطة بين الحزبين الأقويين كما تجدر الإشارة إلى وجود أنظمة سياسية غير حزبية، أي لا وجود للأحزاب السياسية في داخلها، وذلك عائد إلى حظر تأسيس الأحزاب من السلطة السياسية، وهي غالباً ما تكون سلطة تقليدية قائمة على أسس قبلية أو عشائرية.
مظاهر الأزمة السياسية
ينتج من النظامين السياسي والانتخابي أزمة سياسية شاملة، من أبرز مظاهرها:
1.   أزمة تمثيل سياسي لدى النواب، بحيث أضحى النائب في الوقت ذاته ممثلا لمذهب طائفي محدد وممثلا لمنطقة جغرافية محددة وممثلا للأمة جمعاء، مما يخلق لدى النواب نوعا من الانفصام في التمثيل يلغي من شرعيتهم التمثيلية البعد السياسي والحزبي.
2.   أزمة تشريع وأزمة حكم، من خلال محدودية الدور التشريعي للنواب، ومن عدم قدرة السلطة التشريعية في التقرير في الاستحقاقات الأساسية والأمور المصيرية التي تواجه العراق، فكانت حاجة السلطة التشريعية الدائمة إلى قرار من قبل "الناخبين والمقررين الكبار"، أي ممثلي الطوائف والأحزاب والفاعلين السياسيين الإقليميين والدوليين. حيث اقتصر دور مجلس النواب في معظمها على التصديق على ما يقرره "الناخبون والمقررون الكبار" في ما بينهم، إن كان من حيث اختيار الرؤساء أو اعتماد التسويات السياسية والتعديلات الدستورية.
3.   طغيان الدور الخدماتي على مجمل نشاطات النواب على حساب الدور التشريعي، وقيامهم في مواضيع ومجالات كثيرة مقام السلطات المحلية، معطلين دورها وحائلين دون إصلاح اللامركزية الإدارية، وذلك للحفاظ على العلاقة الزبائنية التي تربطهم بقواعدهم الانتخابية المحلية، وعلى عدم توفر سلطات محلية بديلة ومنافسة تلبي حاجات المواطنين من حيث أنها حق مكتسب لهم. فيقتصر دور أكثرية النواب داخل البرلمان على المطالبة بأمور خدماتية لمناطقهم وطوائفهم معتبرين ذلك، بفهم ملتبس، عملاً تشريعياً ومساهمة منهم في صناعة السياسات العامة.

مكونات الثقافة السياسية
 يمكن الحديث عن مجموعة من العناصر أو المكونات للثقافة السياسية سواء تلك التي تتبناها الدولة (ثقافة الحكام) أو الثقافة الرسمية وتلك السائدة لدى أفراد المجتمع (المحكومين) والتي تسمى الثقافة غير الرسمية ومن هذه المكونات :

1.   المرجعية: وهى تعنى الإطار الفكري الفلسفي المتكامل، أو المرجع الأساسي للعمل السياسي، فهو يفسر التاريخ، ويحدد الأهداف والرؤى، ويبرر المواقف والممارسات، ويكسب النظام الشرعية. وغالباً ما يتحقق الاستقرار بإجماع أعضاء المجتمع على الرضا عن مرجعية الدولة، ووجود قناعات بأهميتها وتعبيرها عن أهدافهم وقيمهم. وعندما يحدث الاختلاف بين عناصر النظام حول المرجعية، تحدث الانقسامات وتبدأ الأزمات التي تهدد شرعية النظام وبقائه واستقراره. ومن أمثلة المرجعيات الديمقراطية، والاشتراكية، والرأسمالية، والعلمانية.. الخ وأغلب الظن أنه لا يوجد أثر محسوس للاختلاف بين عناصر المجتمع في الديمقراطيات الغربية، إذ أن هناك اتفاقا عاما على الصيغ المناسبة لشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أما في الدول النامية فالمسائل المتعلقة بشكل نظام الحكم وطبيعة النظام الاقتصادي وحدود العلاقة بين الدين والدولة لم تحسم بعد ولا تزال مثار خلاف وصراع.
2.   التوجه نحو العمل العام: هناك فرق بين التوجه الفردي الذي يميل إلى الإعلاء من شأن الفرد وتغليب مصلحته الشخصية، وبين التوجه العام أو الجماعي الذي يعنى الإيمان بأهمية العمل التعاوني المشترك في المجالين الاجتماعي والسياسي. والتوجه نحو العمل العام والإحساس بالمسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع وقضاياه من أهم مكونات الثقافة السياسية، ذلك أن هذا الشعور بالمسئولية يدفع المواطن إلى الإيجابية في التعامل مع القضايا والموضوعات في ظل ثقافة متشابهة مؤداها الإحساس بالولاء للجماعة.
3.   التوجه نحو النظام السياسي: الاتجاه نحو النظام السياسي والإيمان بضرورة الولاء له والتعلق به من ضرورات الإحساس بالمواطنة وما ترتبه من حقوق والتزامات. فكل ثقافة سياسية عليها أن تحدد النطاق العام المعقول للعمل السياسي والحدود المشروعة بين الحياة العامة والحياة الخاصة. ويتضمن هذا النطاق تحديد الأفراد المسموح لهم بالمشاركة في العملية السياسية ووظائف المؤسسات السياسية كل على حدة. كما تفرض الثقافة السياسية معرفة حدود المشاركة في هذا النظام مثل السن والجنس والمكانة الاجتماعية والوضع العائلي. بالإضافة إلى أن بعض الثقافات السياسية تحرص على تحديد الأبنية والوظائف السياسية في الدولة، وكذلك الأجهزة المنوطة بتحقيق الأهداف التي تحددها الدولة. فالثقافة السياسية هي التي تدعم النظام، وتحدد أطره، وتغذيه بالمعلومات المستمدة من واقع البيئة وخصوصيتها، وتحافظ عليه وتضمن بقاءه.
4.   الإحساس بالهوية: يعتبر البعض أن الإحساس بالانتماء من أهم المعتقدات السياسية، ذلك أن شعور الأفراد بالولاء للنظام السياسي يساعد على إضفاء الشرعية على النظام، كما يساعد على بقاء النظام وتخطيه الأزمات والمصاعب التي تواجهه. فضلاً عن أن الإحساس بالولاء والانتماء للوطن يساعد على بلورة وتنمية الشعور بالواجب الوطني وتقبل الالتزامات، كما يمكن من فهم الحقوق والمشاركة الفاعلة في العمليات السياسية من خلال التعاون مع الجهاز الحكومي والمؤسسات السياسية، وتقبل قرارات السلطة السياسية والإيمان بالدور الفاعل لها في كافة مجالات الحياة.

أثر الثقافة السياسية على النظام السياسي
يحتاج أي نظام سياسي إلى وجود ثقافة سياسية تغذيه وتحافظ عليه. فالحكم الفردي توائمه ثقافة سياسية تتمحور عناصرها في الخوف من السلطة والإذعان لها، وضعف الميل إلى المشاركة، وفتور الإيمان بكرامة وذاتية الإنسان، وعدم إتاحة الفرص لظهور المعارضة. أما الحكم الديمقراطي فيتطلب ثقافة تؤمن بحقوق الإنسان، وتقتنع بضرورة حماية الإنسان وكرامته في مواجهة أي اعتداء على هذه الحريات، حتى لو كان من قبل السلطة نفسها، كما يشترط لاستمرار النظام والحفاظ على بقائه توافر شعور متبادل بالثقة بالآخرين في ظل مناخ اجتماعي وثقافي يعد الإنسان لتقبل فكرة وجود الرأي والرأي الآخر، ويسمح بوجود قدر من المعارضة في إطار قواعد وأطر سياسية موضوعة بدقة لكى تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع السياسي. وتساهم الثقافة السياسية السائدة في المجتمع إلى حد كبير في بلدان كثيرة في تحديد شكل نظام الحكم، بل أنها قد تساهم في تحديد عناصر القيادة السياسية. فقد تكون القيادة السياسية حكرا على عائلة معينة أو على مجموعة صغيرة ذات وضعية خاصة دينية أو مذهبية أو عرقية أو تعليمية. وحيث يقدر المجتمع كبار السن ويعلى الذكور على الإناث، يغلب أن تجئ القيادة من صفوف المسنين الذكور. وفى كثير من الأنظمة السياسية ينظر إلى فئة معينة على أنها الأجدر بالسيطرة على المستويات العليا للسلطة. هذه الفئة قد تكون رجال الدين أو العسكريين أو المحامين.. الخ. وفى مثل هذه الحالة يتوقع أن تعكس السياسة العامة مصالحهم في المقام الأول. وتؤثر الثقافة السياسية كذلك على علاقة الفرد بالعملية السياسية، فبعض المجتمعات تتميز بقوة الشعور بالولاء الوطني والمواطنة المسئولة، وهنا يتوقع أن يشارك الفرد في الحياة العامة، وأن يسهم طواعية في النهوض بالمجتمع الذي ينتمى إليه. وفى دول أخرى يتسم الأفراد باللامبالاة والاغتراب وعدم الشعور بالمسئولية تجاه أي شخص خارج محيط الأسرة. وفى بعض الأحيان ينظر المواطن إلى النظام السياسي على أنه أبوي يتعهده من المهد إلى اللحد ويتولى كل شيء نيابة عنه ويعمل على ضمان رفاهية الجماعة. وفى المقابل قد يتشكك الفرد في السلطة السياسية ويعتبرها مجرد أداة لتحقيق مصالح القائمين عليها ليس إلا. لذلك يمكن القول أن الاستقرار السياسي يعتمد على الثقافة السياسية. فالتجانس الثقافي والتوافق بين ثقافة النخبة والجماهير يساعدان على الاستقرار. أما التجزئة الثقافية والاختلاف بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير، فإنه يشكل مصدر تهديد لاستقرار النظام السياسي.

أزمة بنيوية أم ثقافة سياسية
ناقشت الأدبيات السياسية مسألة طريقة الانتخابات الأفضل للنظام الديموقراطي والشكل السياسي الذي تؤسسه، وتنوعت التوجهات النظرية حول هذه القضية. وركزت الأدبيات السياسية بالأساس على الجانب البنيوي الوظائفي للنظام متبنية النظريات البنيوية والوظائفية في العلوم السياسية، ولكن مع ظهور نظرية الثقافة السياسية أعطى الموضوع جانيا آخر للبحث والدراسة والفهم. كانت عملية فهم طرق الانتخابات وشكل النظام الديموقراطي منقوصة في ظل تغييب عامل الثقافة السياسية، فلا يمكن الحكم على الواقع السياسي مع خلال الآليات البنيوية فقط دون استحضار مفردات الثقافة السياسية.
من الصعب الحسم في عملية تحديد الطريقة الانتخابية المثلى للنظام الديموقراطي وشكله، وطبعا أكثر صعوبة أن يتم تأطير ذلك في قالب نظري يصلح لكل زمان ومكان وسياق. التي من خلالها نستطيع أن نقرر ما هي الطريقة المثلى؟ أو الأقل ضررا من بين الطرق المعروضة. لكل طريقة ومبنى سلبياته وإيجابياته وسياقاته التاريخية والثقافية. ولا يمكن إخضاعها لاعتبارات معيارية عالمية، فهي ليست قيمة بحد ذاتها بل وسيلة لتحقيق كل ما يصبو إليه النظام، وهو الاستقرار. تبقى عملية نجاح وفشل الطريقة الانتخابية أو النظام الذي تؤسسه متعلق أولا وقبل كل بالثقافة السياسية وليس بقدرتها البنيوية والوظائفية فقط. فمثلا، شكلت عملية اختيار طرق الانتخابات وشكل النظام الديموقراطي استجابة للسياق التاريخي والثقافي الذي نشأت في ظله والمشاكل والقضايا الذي ارتبطت فيه. فالطريقة الأمريكية كانت ضرورية لعملية بناء الأمة وتمكين النظام الفدرالي. والطريقة الإسرائيلية (رغم النقاش الدائر حولها الآن وتاريخيا) كانت حيوية من وجهة نظر الدولة الفتية لهصر مجتمع المهاجرين والقادمين وقناة لاحتياجاتهم. في مرحلة تاريخية لم يكن مقبولا فيه في ظل بناء الدولة (وليس الأمة) من ممارسة "السياسية الصراعية": Contentious Politics لان العمل السياسي والموارد الاقتصادية انصبت على عملية بناء الدولة واستيعاب القادمين وصد الخطر الخارجي. ركز التيار الموجه للإصلاح السياسي في إسرائيل ادعائه أن عوامل بنيوية فرضتها الطريقة النسبية هي التي زجت السياسة الإسرائيلية في حالة من عدم الاستقرار، سقوط حكومات قبل موعدها، حل البرلمان، انقسامات حزبية وكثرة الأحزاب والمصالح. ولم تنتبه أو لم تأخذ بعين الاعتبار عوامل الثقافة السياسية إلى جانب العوامل البنيوية المتعلقة بالطريقة لحالة عدم الاستقرار. في النهاية طريقة الانتخابات ومبنى النظام يبقى شكلا (رغم عدم تقليلنا لأهمية الشكل بحجة الجوهر الديموقراطي كما يحدث ويميز عملية "الدمقرطة" في العالم العربي) والثقافة السياسية هي الجوهر. والثقافة السياسية في الحالة الإسرائيلية هي ثقافة سياسة قبلية وسياسة قبيلة. على هامش النقاش.

رؤية نقدية في المشهد الثقافي السياسي العراقي
يلف الأمة العراقية ضبابية ثقافية، وتلقائية تدور في أزقة الفوضى الفكرية، والانسحابات عن الإطار الفكري الذي يؤطر الثقافة العراقية وما ينبثق عنها من ثقافة سياسية تتشكل في برامج التنمية والتوعية السياسية في البعد التربوي والإعلامي على وجه التحديد، فمنظومة المعارف والقيم والرؤى والأفكار والاتجاهات التي تتشكل من أطياف ثقافتنا في لغة النظم السياسية فيما يتعارف عليه بالثقافة السياسية في فردية منسحبة وسلطوية مستبدة وممارسات سياسية عشوائية منسحبة عن أبجديات التأطير السياسي الواعي الذي تشكله منجزات الديمقراطية الحقيقية وحرية التعبير والمشاركة الفاعلة للمواطن في لغة اتخاذ القرار السياسي بوعي وخلق وكفاية ومسؤولية من خلال تفاعل نظريتي التدخل والإرسال في النهج السياسي الواعي لا المتخبط في ظلمات التبعية للغالب في كافة ما يخطر بالبال من أشكال التبعية وما لا يخطر، ونحن في ظل تلك الأزقة بحاجة إلى خلفية فكرية واعية تتشكل من تكاتف النخبة المثقفة المخلصة لتحديد أبعاد القرار السياسي والرأي العام في إطار جدية القرارات واستقلالية النهج واحترام الآخر والتفاعل مع التجربة الإنسانية السياسية ولكن في ضوء الوعي وعدم التذوت (تفضيل الذات دون الآخرين) حتى الانسلاخ، ولكن ما يتراءى للمتتبع في المشهد السياسي العراقي هو لغة التذوت حتى الفناء في الآخر بحيث لا تجد حتى مجرد أطلال الذات الحقيقية في رسم ذلك المشهد الهستيري بالمتضادات، فلا نجد رسم متطلبات الهوية العراقية  في بعد ثوابتها وانفتاحها الواعي، بل تتشكل لغة التجزئة والتبعية المطلقة المنفلتة من بعد ثقافتها، والواقع النقدي يقدم مؤشرات حادة مفادها عدم بلوغنا ونحن على مساحات القرن الواحد والعشرين حقيقة المأسسة الجادة لثقافتنا، فضلا عن ضبابية الثقافة السياسية وعشوائية قراراتها التي تئن في آتون التبعية والصدمة من الأخر وبلوغ أزمة عقدة المغلوب فيها أوجها حتى فاقت ما سطره ابن خلدون في نظرية الغالب والمغلوب في بعدها الفردي والجمعي المطلق، بحيث يبرز فيها ظاهرة بيع المبادئ بالمزاد العلني على سيمفونيات الدولارات، فلا يخفى ما يتشكل لنا من لوحات سريانية متضادة عبر المشهد السياسي العراقي تنم عن غياب الوعي الثقافي وانحراف لغة السياسية عن خلفيتها الفكرية التي تضمن مساراتها في ضوء ثقافة الوعي والديمقراطية وحرية التعبير والمشاركة الفاعلة بين المواطن والسلطة.